صحيفة ووكالة
الإخبارية المستقلة
الجمعة 2025/5/16 توقيت بغداد
في حضرة الأرض التي لا تنحني..خالد فنديل


المشاهدات 1102
تاريخ الإضافة 2025/04/27 - 10:58 AM
آخر تحديث 2025/05/16 - 3:40 PM

في حضرة الأرض التي لا تنحني

د. خالد قنديل

كلما أغمضتُ عيني على صدى المدافع القديمة، فُتحت في قلبي نافذة تطلّ على سيناء، كأنها تهمس لي من بعيد، بصوتٍ يعرف الطريق إلى الأعماق

وفي لحظة صمت.. تكلّمت الأرض

تحدثت سيناء.. دعوني أتكلم

أنا التي كُتبت في الإنجيل، والتوراة، والقرآن. أنا الأرض التي سُقيت من دم الشهداء، وسارت فوق ترابها خطوات الأنبياء.

 أنا سيناء..لا تصدقوا من يقول إنني صعبة المراس.. أنا فقط لا أفتح أبوابي للغرباء

أنا أرض الوفاء، لا تنبت الخيانة على ضلعي، ولا تسمح لعابرٍ أن يقتلع جذوري. في كل شجرة زيتون هنا، حكاية شهيد. وفي كل حجر، بصمة جندي، نام على الأرض ليفتح صباحًا جديدًا للوطن.

رأيتُ جيشًا يُشبه أولياء الله... وجوههم صافية، قلوبهم عامرة، يحملون السلاح كأنهم يحملون صلاة.. يزرعون الأمن حيث مرّوا، ويربتون على كتف الجرحى قبل أن يسيروا نحو الرصاص

هم خير أجناد الأرض.. لا لأن الكتب قالت، بل لأن الأرض شهدت.

ورأيتُ شعبًا لا تفرّقه الرياح، ولا تهزمه العواصف.. حين اشتدّ الخطر، لم يهرب، بل بنى خلف المتاريس مدرسة، وعلّم أبناءه أن يكتبوا "مصر" قبل أسمائهم.

أنا سيناء... لا تخافوا عليّ ما دام هذا الشعب ينبض، وما دام جيشه يأتيني كل صباح، لا ليحارب فقط، بل ليقول ليلن نترككِ وحيدة، يا أمّنا الجبلية

احفظوا عني هذا القولأنا لستُ صحراء… أنا ذاكرة وطن. وكل من سار على ترابي، وسقاني دمه، صار جزءًا مني.

وسيكتب التاريخ، أن المصريين حين اشتدّ الخطب، التفّوا حول سينائهم

أقسموا أن لا يُرفع على جبلها علمٌ غير علمهم، ولا يُنادَى في واديها باسم غير اسمهم.. وأن كل من حاول أن يمسّ ترابها، تحوّل إلى ظلّ لا يُذكر.

في الخامس والعشرين من أبريل، في ذكرى تحرير سيناء، تنزع الأرض عنها ثوب الصمت، وتنهض من تحت رمالها الذكريات.. تنفض عن كتفيها غبار الحروب، وتزهر في وجدان كل مصري كأنها آية من كتاب الوطن

سيناء.. لم تعرف الخضوع يومًا، كتب التاريخ اسمها بدماء الشهداء لا بالحبر، وعادت لتذكرنا، عامًا بعد عام، أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع من بين أنياب الموت.

تحررت سيناء، لا من الاحتلال فقط، بل من وهمٍ أراد للوطن أن يُنسى، ومن خرافة أن التراب يمكن أن يُقايض. ارتدت عباءتها البيضاء، وسارت فينا كما تمشي القصائد في دفاتر العشاق

وما ظنّ العدو يومًا أن هذه الأرض التي انكسرت عليها دباباتهم، لا تنكسر. وإن انحنت لحظة، ففي جوفها عروق من نار، تولد من رمادها ألف مرة.

واليوم، بعد أعوام النصر، نعيش نصرًا من نوع آخر.. لا تُقرع له الطبول، ولا تُرفع فيه الأعلام، بل تُكتب ملاحمه في صمت البنادق، وفي دمعة أمٍ تنتظر

فحربنا لم تعد مع عدوٍ على الحدود، بل مع خنجرٍ في الخاصرة، مع أشباحٍ تتسلل في الليل لتغتال الضوء.. مع من أرادوا لسيناء أن تُنسى، أن تُختطف من بين أذرع الوطن… فخابوا.

سيناء، يا شرف العروبة، يا لغز الجغرافيا وقداسة التاريخ، يا أرضًا لا تعرف الخيانة.. سيحاولون، لكنهم لن يعبروا. فهذه الأرض لا تُفتح إلا بمفتاح الدم، ولا تُسكن إلا بأمانة الحب. والحب في مصر... لا يُباع.

في ذكرى التحرير، لا نحتفل بالنصر فحسب، بل نجدد عهد البقاء

نقول للتاريخ: نحن هنا نقول للخوف: مرّ من هنا جنودٌ لا يعرفونه،

ونقول لسيناء" أنتِ لستِ مجرد قطعة من الوطن… أنتِ الوطن إذا اشتدّ عليه الجرح".

ستظلين خطًا أحمر، وراية بيضاء، وقصيدة لا تموت

سيناء للمصريين… وستبقى كذلك، ما دام في قلوبنا نبض، وفي حروفنا وطن.

نقلا عن " الاهرام"


تابعنا على
تصميم وتطوير