صحيفة ووكالة
الإخبارية المستقلة
الخميس 2025/10/9 توقيت بغداد
معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين
حرب السويس تشتعل.. وخالتي تبحث عن ابنها


المشاهدات 1088
تاريخ الإضافة 2025/09/21 - 9:40 AM
آخر تحديث 2025/10/09 - 8:01 AM

 

حرب السويس تشتعل.. وخالتي تبحث عن ابنها

د.مظهر محمد صالح

 

في خريف العام 1956، حين اشتعلت النار فوق بورسعيد، لم تكن الحرب بعيدة كما ظنّ البعض، بل كانت أقرب من كل الأزقة البغدادية، أقرب إلى قلب خالتي، تلك الأرملة البسيطة التي لم يكن لها في الدنيا غير ابنها اليتيم، تُرضعه الحنان وتُلبسه الأمل، حتى صار شابًا يافعًا، يطرق أبواب الحياة من بوابة الإعدادية المركزية في بغداد.

في التاسع والعشرين من أكتوبر، بدأت طبول الحرب تقرع، حين أقدمت إسرائيل على مهاجمة سيناء، بتخطيط خفيّ من ثلاثي الاستعمار القديم: بريطانيا، وفرنسا، وإسرائيل.

اجتمعوا سرًا في ضواحي باريس، في مدينة تُدعى “سيفر”، واتفقوا أن تُشعل إسرائيل الشرارة، ثم تتدخل بريطانيا وفرنسا بحجة إيقاف الحرب… لكن الهدف الحقيقي كان واضحًا: كسر إرادة عبد الناصر بعد تأميمه قناة السويس، واستعادة النفوذ المهتزّ.

وفي الوقت الذي كانت الطائرات الغربية تحلّق فوق بورسعيد، كانت الحناجر تشتعل في بغداد، وقلوب الطلبة تصرخ باسم مصر، تهتف للشعب ، للكرامة، للحرية. كانت الإعدادية المركزية مركزًا للغليان الوطني، ومهدًا لمظاهرة كبيرة انطلقت من باحتها، متجهة نحو شارع المتنبي، ثم شارع الرشيد، تشقّ قلب العاصمة كأنها موجة نهر غاضبة.

في ذلك اليوم، لم يكن لخالتي من صبرٍ يكفيها. هرعت من بيت جدي في العاقولية، قرب ساحة الرصافي، بعباءتها البغدادية السوداء، تحنيها الريح، وتشدّني من يدي، وأنا صبي صغير لا يفقه من الحرب شيئًا، سوى أنها قد تأخذ منها ابنها الوحيد.

دخلنا الزحام

كان الشارع مزيجًا من الهتاف والدخان، من صراخ الطلبة ورجال الشرطة، من الحجارة التي تتطاير بين الأيادي والقبضات المشدودة.

كنتُ أسمع كل شيء ولا أفهم شيئًا… سوى بكاء خالتي، وصوتها يرتجف وهي تردد اسمه بين الجمع، تبحث في الوجوه عن وجهه، تخاف أن يكون في قبضة الأمن، أو مرميًا على الرصيف.

المحال أغلقت أبوابها، والناس تركض في كل اتجاه، والشوارع تلبست بالعنف. كانت بغداد كلها تُقمع في ذلك اليوم، وكانت خالتي تمشي عكس التيار، تحمل قلبها على كفها، وتمضي تبحث عن ابنها وسط الجموع.

ومع مغيب الشمس، عدنا إلى بيت جدي، وقلوبنا مثقلة بخوف لا يُقال.

لكن الباب انفتح، ودخل ابن خالتي، مبللاً بالعرق والتراب، لكنه سالم، عائد من دروب بغداد العتيقة، تلك التي تحفظ خطى العشاق والثوار، متسللًا كمن خرج من عنق الموت.

 

نجا، وأكمل سنته الدراسية بتفوق، وصار بعد أعوام صيدليًا معروفًا، يعالج المرضى بابتسامة، ويزرع الطمأنينة في القلوب، كما زرعت خالتي فيه الأمل ذات يوم.

أما خالتي، فقد رحلت بعد سنوات

لكنني لا أنسى صورتها، وهي تمشي بعباءتها في رياح الخريف، تمسك بيدي، وتشقّ شوارع بغداد خلف ابنها. لا أنسى خوفها، ولا دمعتها، ولا صوتها حين نادت عليه في قلب الزحام.

لقد كانت امرأة من نساء العراق، من اللاتي حملن الوطن على أكتافهن، وربّين جيلًا قاوم الاستعمار بالحناجر والطباشير والحجارة

 

 


تابعنا على
تصميم وتطوير