صحيفة ووكالة
الإخبارية المستقلة
الخميس 2025/10/9 توقيت بغداد
معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين
تأميم المصنع الوطني: التاريخ الذي أحزن والدي


المشاهدات 1079
تاريخ الإضافة 2025/09/28 - 10:23 AM
آخر تحديث 2025/10/09 - 9:55 AM

تأميم المصنع الوطني: التاريخ الذي أحزن والدي

 

د.مظهر محمد صالح

 

عاش والدي موظفًا حكوميًا ، يُعد من أبناء الطبقة الوسطى، يتحمّل أعباء عائلته صغيرها وكبيرها. كان يجد متعة في التسوّق لتأمين احتياجات بيتنا من راتبه الشهري كموظف تربوي ، إلى أن اصطدم عشية ثورة تموز 1958 بأيام قليلة ، بحادثة اقتصادية قاسية ، إذ قام قصّاب المدينة، الرجل النظيف الرائع، برفع سعر لحم الغنم فجأة إلى 120 فلسًا للكيلوغرام الواحد!

تعجّب والدي حين سأل قصّابنا المحترم ، عن سبب هذا الارتفاع المفاجئ، فأجابه:

إنها تحرّكات سعرية لا أعرف مصدرها، لكنها بُنيت على معلومات مشوشة أو ملونة بشأن مستقبل الاستقرار الاقتصادي مع الانتقال من العهد الملكي إلى الجمهوري.”

ظل والدي يحتفظ بثلاثين أو أكثر من أسهم شركة السمنت العراقية ، التي كان قد اشتراها وقت تأسيس الشركة في العام 1936، وهي من الشركات الناجحة آنذاك. كانت تلك الأسهم مصدر فرح مزدوج له كل عام:

الأول، عندما يتلقى طردًا بريديًا كبيرًا يحمل الحسابات الختامية السنوية للشركة بجداول محاسبية منتظمة التبويب لا نفقه نحن الصغار منها شيئًا،

والثاني، حين يصله طرد آخر يحمل إشعارًا بحصته من الأرباح السنوية، والتي كانت تبلغ نحو خمسة دنانير، بكونه من صغار المساهمين.

 

كان والدي، الموظف الحكومي التربوي الأنيق، يصرف أرباحه السنوية في تفصيل بدلة رجالية لدى أمهر خيّاطي العاصمة بغداد، أولئك الذين تُضرب بهم الأمثال في الدقة والوضوح في التصميم.

مضت سبع سنوات على حادثة ارتفاع أسعار اللحوم، وسط ضوضاء التبدلات السياسية، إلى أن تلقّى والدي صدمة جديدة !! بتأميم ذلك المصنع في العام 1964.

ظل والدي يتساءل ، وهو يجلس في دائرة عائلية كبيرة:

أيّ برجوازية هذه التي تمت مصادرة هذه الأسهم القليلة منها؟!

لقد حُرمت، يا أولادي” — ونحن الأبناء الخمسة ملتفّين حوله — “من دون أن أُخِلّ بدخلي الشهري، ومن دون أن أطمع، بل كنت أتمتع بملبس سنوي لائق من حقوق ملكية لا تتعدى عوائدها ثمن بدلة واحدة!”…كانت تلك لحظة عزلة بين والدي المواطن البسيط وسلطات اقتصادية اعتقدت أنها تحارب الرأسمالية، فيما كانت في الحقيقة تقوض ثقة الطبقة الوسطى بالمستقبل.

كان يوم التأميم للمصنع الوطني يومًا حزينًا عليه

انقضت سنوات قليلة بعدها، وترك زهو ملبسه، ودخل عالم التقاعد،

وهو يراقب أن بناة الصناعة وازدهارها قد أصبحوا قيد الرحيل،

وأن بلادنا قد انتهت بـ”أنـياب اقتصادية مخلوعة الصناعة،

وأن دواليبها قد توقّفت في صراعات وحروب،

ولم تبدأ من جديد، إلا بعد ضياع سبعة عقود من رحيلها، وهي ترفع معاول لا ترحم جسدها.

دخلنا اليوم من هذا القرن ما سُمِّي بـ”السلام الصناعي،

لكن والدي توفّي، وتوفّي الآباء المؤسسون،

ونحن امام جيلٌ ينتظر آباء الصناعة الجدد في عالم الصناعة الحديثة، وانه جيل قد لايعلم شيئًا عن حلم الملكية الصغيرة أو بدلة من أرباح وطنية، ونحن في عالم باتت مصانعه تدخل

مرحلتها الخامسة، التي تربط الذكاء الصناعي بالذكاء البشري،

في خلية نحل رقمية، لا تعرف سوى أن تلتقط قطرات الرحيق وتحوّلها إلى عسل الإنتاج.

إنها رؤية سيبقى عنوانها:

دواليب مصانع الغد بدأت ترسم مساراتها، ولا مناص من ركوب قطارها. فالاقتصاد ليس مجرد أرقام وسياسات، بل حكايات، وبدلات سنوية، وطموحات صامتة كانت تدور في بيوت الطبقة الوسطى.

وإذا كنا اليوم نؤسس لصناعة حديثة، فلا ننسَ أن نضع للناس مكانًا فيها

لا بمصادرة أحلامهم البسيطة ، بل بإشراكهم فيها، ولو بسهم صغير.


تابعنا على
تصميم وتطوير