سيف «الشبكات الاجتماعية» ذو حدين
د. ياسر عبد العزيز
كاتب وخبير اعلامي مصري
رسخت الاحتجاجات والاضطرابات، التي وقعت في المغرب ونيبال أخيراً، الدور المتصاعد لـ«الشبكات الاجتماعية» في السياسة الداخلية للبلدان، وكرسّت علاقتها الوثيقة بالأمن القومي. وباتت قوة هذه الشبكات بمنزلة سيف التغيير المُعلق في يد الشعوب: قد يقطع طريقاً نحو الحرية والإصلاح، إذا أُحسن استخدامه ضمن أطر بناءة، وقد يرتد فوضى وفتنة، إذا تُرك يضرب في فراغ الكبت والإقصاء، وتحت سطوة الاستخدامات المشبوهة والمُغرضة.
فالمؤكد أن ما كان يُنظر إليه يوماً كمساحة للألفة والتسرية والتواصل بين الأصدقاء، أضحى، اليوم، ميادين رقمية لصياغة الوعي الجماعي، وصُنع التاريخ البديل. فلم تعد مقولة «الثورة لن تُبث على التلفاز» صحيحة بالكامل؛ لأنها باتت تُغرد وتُبث مباشرة على وسائل «التواصل الاجتماعي»، لتصنع واقعاً جديداً على الأرض. وبينما تتسارع الخوارزميات في ضخ المحتوى وإشعال المشاعر، تنهض مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع - ناشطين وحكومات وشركات تكنولوجية - لتوجيه دفة هذا التيار الجارف نحو بر الإصلاح والبناء، لا هاوية الهدم والفوضى.
ففي عصر أصبح فيه الهاتف الذكي كعود ثقاب يشعل هشيم الغضب الشعبي، غدت وسائل «التواصل الاجتماعي» سلاحاً لا يُستهان به في صياغة الاحتجاجات وحشد الجماهير.
ومن شوارع المدن المغربية المملوءة بشباب يهتفون للإصلاح، إلى ساحات كاتمندو التي تعج بمطالب العدالة، ينساب تأثير العالم الافتراضي إلى الواقع كالسيل الجارف. فبضغطة زر، وانتشار وسم على «الإنترنت»، قد تشتعل الميادين وتعلو الهتافات، في مشهد يؤكد أن من يمتلك منصة التواصل قد يمتلك مفتاح تعبئة الشارع.
ولذلك، فإن أستاذ الصحافة والدبلوماسية العامة الأميركي فيليب سيب يرى أن الأساليب التقليدية لصنع السياسات العامة أوقات الأزمات «قد تم تجاوزها بفعل تأثير الإعلام الجديد، وتطور بيئة الاتصال».
وليس ما حدث في نيبال والمغرب سوى ومضات في هذا التطور، الذي أخذ يتشكل منذ مطلع العقد الماضي، أو حلقة في سلسلة من الاضطرابات الرامية إلى التغيير أو إحداث الفوضى، وهي سلسلة عرفنا بدايتها، لكن لم نصل إلى نهايتها بعد، فالحبل ما زال على الجرار. وقد انطلقت الموجة الأولى لتلك السلسلة، حين تحول «فيسبوك» من مجرد موقع تواصل إلى منصة ثورية إبان الانتفاضات العربية عام 2011. رأينا يومها كيف التف الملايين حول صفحات تنادي بالحرية في تونس ومصر، وكيف أسقطت أنظمة عتيدة تحت ضغط الشارع المستند إلى زخم إلكتروني غير مسبوق. وتبعتها، خلال العقد ذاته، حركات احتجاجية عابرة للقارات، تميزت جميعها باستثمار قوة «الشبكات الاجتماعية» في حشد الصفوف وتحدي السلطات؛ من حركة «احتلوا وول ستريت» في الولايات المتحدة، إلى احتجاجات «الساخطين» في إسبانيا، مروراً بتظاهرات إيران وتركيا، وصولاً إلى احتجاجات عدة في آسيا وأميركا اللاتينية. هذه التحركات، على اختلاف سياقاتها، تشترك في قاسم مشترك واحد: الشباب الغاضب المُزود بأدوات التواصل الحديثة.
لقد كسرت المنصات الرقمية حواجز الصمت والامتثال، ومكّنت الأفراد من اكتشاف أن آراءهم المعارضة للواقع ليست معزولة. وكما يشير الباحثون المتخصصون، فإن الفضاء العام الرقمي يساعد الناس على اكتشاف أرضية مشتركة، ليدركوا أنهم «ليسوا وحدهم في معارضتهم»، تماماً كما تفعل المظاهرات في الشوارع حين تجمع الغرباء على هتاف واحد. فما الجديد إذن؟ الجديد في أحداث نيبال كان خلاصة مفادها أن قطع «الإنترنت» سيصب المزيد من الزيت على النار؛ لأن الشباب الغاضب والمُستنفر سيستخدم الشبكات المُشفرة (VPN)، بزيادة نسبتها 8000 في المائة. والجديد أيضاً أن شباب «جيل زد» في المغرب سيلجأ إلى منصة تواصل «ديسكورد»، التي تتفادى الإفصاح عن البيانات، والبعيدة عن مراقبة الحكومة، والتي تسمح بانخراط مئات الآلاف في مجموعات للتعبئة والحشد.
لكن هذا المد الرقمي ليس بلا مخاطر؛ فإطلاق العنان لقوة «الشبكات الاجتماعية» في ميدان السياسة يشبه استخدام سيف ذي حدين؛ وأحد هذين الحدين يكمن في التوظيف المُسيء، والاستخدام المُغرض، وصناعة الفوضى، وإسقاط الدول. فلا خلاف على أن هذه المنصات كسرت احتكار السلطة للإعلام، وأتاحت صوتاً لمن لا صوت له، لكنها، من ناحية أخرى، عرضت الحركات الشعبية لتحديات جديدة غير مألوفة؛ وأول هذه التحديات يكمن في افتقار الانتفاضات، التي تولَد من رحم العالم الافتراضي، إلى البنية التنظيمية، التي كانت تُميز الحركات التقليدية، وعندما تغيب الهيكلية والتنظيم، يسهل تسلل المُخربين، أو اندلاع السلوك التدميري في غمرة الحماس.
والحل لا يأتي عبر إحكام السيطرة، أو إنفاذ العزلة الرقمية، أو استخدام القوة فقط لفض الاحتجاجات، وإنما يكمن في معالجة المطالب المشروعة، وانفتاح «الإعلام التقليدي»، واستيعاب الأصوات الناقدة، وتفعيل التنافس السياسي الداخلي الشفاف، ومقابلة توقعات الشباب عبر أدوات السياسة.
نقلاعن "الشرق الأوسط"