صحيفة ووكالة
الإخبارية المستقلة
السبت 2025/12/6 توقيت بغداد
معتمدة في نقابة الصحفيين العراقيين
ثلاثية تتناسل في معارك الشرق: التواطؤ… السلطة… التبرير


المشاهدات 1091
تاريخ الإضافة 2025/11/18 - 9:56 AM
آخر تحديث 2025/12/04 - 5:15 AM

ثلاثية تتناسل في معارك الشرق: التواطؤ… السلطة… التبرير

د.مظهر محمد صالح 

 

تبتلع ثلاثية التواطؤ والسلطة والتبرير بعضها بعضاً في معارك الشرق، كأنها دوائر مغلقة من السلوك الجمعي المختل. فقد ارتبطت هذه العناصر الثلاثة، بأركانها وتشابكاتها، في مختبر الاجتماع السياسي داخل عالم ريعي لم تهدأ فيه محاولات رسم حدود المصلحة وتحديث الخطاب والفكر النقدي.

وهو عالم ينهكُ أقلام الفكر والحكمة، حين يذوب المتواطئ في نمطٍ سالب من السلوك البشري، مستغرقاً في أيديولوجيا السلطة، قبل أن يتراجع إلى أصاغر الحياة عبر مسارب التبرير ، إنها (ثلاثية الحوكمة السيئة).

في هذا المناخ، يتكوّن محيط بشري ساكن، متجذّر في صخور حياتية صمّاء تعيق ديناميكية التطور. ويغترب الأفراد عن مستقبلهم، فيما يغادره العالم بثلاثية أخرى إيجابية ، هي النزاهة والمشاركة والمساءلة (عماد الحوكمة الجيدة).

١- (التواطؤ… الصمت الذي يخرّب القيم)

يحدّثنا المفكر الكبير حسين العادلي عن التواطؤ بوصفه منظومة من الصمت والتخادم، قائلاً:

«التواطؤ ليس اتفاقاً في الموقف، بل اتفاقٌ على إيقافِ الموقف؛

إنه صمتُ الوعي أمام انكسارِ القيم،

وسقوطُ الضميرِ أمام تحسينِ الخطيئة

ويضيف محذّراً:

«إذا لم يترفّع الفرد عن التواطؤ، ويرفض المجتمع سطوته، وتُجرّم الدولة ممارسيه، فستنهار بُنى الحياة برمّتها تحت وطأة روحه المخرّبة وآثاره المدمّرة

ولعل صدق القول يتجلى في حكمة جيفارا:

«الأمم لا تتحرر برحيل آخر جندي مستعمر، بل برحيل آخر خائن فيها

وما بين الخيانة والتواطؤ مسافة اسم لا فعل.

٢- (السلطة… مفتاح الدولة الذي يجب تبديل أقفالها…!)

وفي تناوله لمعضلة السلطة، يكتب العادلي:

«السلطة مفتاح الدولة، غير أن الدولة العاقلة تبدّل أقفالها قبل أن تُكسر

انه قول يستدعي إرثاً طويلاً من التفكير في السلطة، بما في ذلك السلطة الأيديولوجية التي تحدث عنها فيلسوف فرنسا لوي ألتوسير في أطروحاته حول أجهزة الدولة الأيديولوجية.

ذلك ما دفعني لاسترجاع مشهداً بريئاً، حين سألني حفيدي:

«هل المدرسة سلطة؟»

فأجبته: نعم ، لكل مؤسسة قدرة على فرض شكل من أشكال السلطة، من المدرسة إلى عامل النظافة الذي يتحكم بتوقيت إزالة النفايات. لكن أخطرها يظل سلطة الصغار المتفرّعين عن البيروقراطية، ممن يتعاملون مع الخدمة العامة بمنطق السيد والعبد، متناسين أن السلطة تكليف لا تشريف.

٣- (التبرير… آخر المتحوّرات الأخلاقية)

يبلغ تفكك الحوكمة ذروته حين تتقدم ظاهرة التبرير لتحتل ضلعها الثالث في هذه الثلاثية ،اذ يقول المفكر العادلي:

«من آمن بالتبرير قضى عمره متهماً

فالتبرير، حين يفقد المجتمع قاعدة التسامح، يتحول إلى عرف خفي لتقنين الكذب. إذ يغدو الفضاء العام ساحة قنصٍ متبادل ومحاكماتٍ لا تهدأ ، ويصبح البقاء حكراً على الأقدر على صناعة التبريرات، لا على الأصدق أو الأكفأ.

ومع الوقت، يرتفع المجتمع إلى سقوف السُحب الظلماء ، حيث يفلت الجميع من ظلام الجميع بالتبرير، غير أن هذا الإفلات لا ينتج إلا الكذب، وانهيار الثقة بالنفس، وتآكل القدرة على قول الحقيقة.

و يبقى المفكر العادلي يتلمس لعبة الحياة على انها مسرحية…فالحياة في نظره مسرحية ، والصراع فيها على الادوار ، وان اغرب ما في مسرحية الحياة ،أَنَّكَ المُخرِجُ وَالمُمَثِّلُ وَالمُشَاهِدُ مَعاً! وان أَفضَلُ مَسرَحِيَّةٍ تَتِيهُ فِيهَا القِصَّةُ، وَتَضِيعُ فِيهَا الأَدوَارُ؛ هي الفَوضَى! ثم يواصل العادلي … السِّيَاسَةُ كَالمَسرَحِيَّةِ؛ وَلَا تَنجَحُ مَسرَحِيَّةٌ إِلَّا إِذَا اقتَنَعَ الجُمهُورُ بِأَنَّ الأَقنِعَةَ وُجُوهٌ، وَالأَدوَارَ شَخصِيَّات..!

هنا تذكرت الفيلسوف فرنسيس بيكون 1561–1626، الذي ارتبط اسمه بما يُعرف بـ الفلسفة التجريبية (Empiricism)، إذ عد أن المعرفة الحقيقية لا تُبنى على التأمل وحده، بل على الملاحظة والتجربة والاستقراء ، فحينما تناول مفهوم (اوهام الانسان الاربعة ) ومنها الوهم الرابع وهو المسرح.. اذ يرى بيكون ان تلك الافكار التي نتلقاها من الفلاسفة والمفكرين دون تمحيص ونؤمن بها هي (فاعلية دوغمائية ) و هي نزعة فكرية تقوم على التمسّك المطلق بمعتقدات أو أفكار معينة، وعدها حقائق نهائية غير قابلة للنقاش أو الشك أو المراجعة ،وهي نقيض الروح النقدية والانفتاح العقلي لاعتقاد اولئك المفكرين بأنهم يملكون الحقيقة المطلقة …. !

ختاماً ، هنا يلتقي بيكون والعادلي مع ما قاله (برتراند راسل (1872–1970) الفيلسوف البريطاني، عالم الرياضيات والناشط الاجتماعي ، الذي يُعد من أبرز مؤسسي الفلسفة التحليلية وأحد أعظم العقول في القرن العشرين ) وهو يقول مرددا : انك قد تقضي عمرك وانت تعتقد انك تدافع عن افكارك ، ثم تكتشف انك تدافع عن افكارهم التي زرعوها في عقلك…!!

انها مسرحية الحياة .. يبقى الصراع فيها… ولكن على الادوار فحسب .


تابعنا على
تصميم وتطوير